كتب جمال إبراهيم: استعصاءُ السودان بين الدبلوماسية الأممية والجنرالات

2022.05.30 - 06:12
Facebook Share
طباعة

 حينما قبلت الأمم المتحدة الاستجابة لطلب السودان المساعدة وتقديم الإسناد، وفق البند السادس لميثاق الأمم المتحدة لإكمال انتقال السودان إلى الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان والسلام المستدام، عيّنت، بعد تمحيص، الدبلوماسي الألماني، فولكر بيرتس، ليكون ممثلاً للأمين العام للأمم المتحدة، ويتولى تلك المهمّة. وفق المهام التي فصّلها مجلس الأمن، في قرار إنشاء البعثة الأممية (يونيتامس)، يكون غرض البعثة دعم (وتيسـير) تحقيق مهام الفترة الانتقالية، الرامية إلى بناء نظامٍ جديدٍ في السودان، يتجاوز الخراب الذي تركه حكم الإسلامويين. تلك حقبة بلغ مداها ثلاثين عاماً من القمع والفساد والتفريط في مقدّرات البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. حين تولّى الدبلوماسي الألماني رئاسة تلك البعثة، كان مدركاً تمام الإدراك أبعاد مهمته، وهو الدبلوماسي الحصيف صاحب التجارب الواسعة في إنجاز مثل تلك المهام، فحرص على التأكيد دائماً، لملكية السودانيين لإدارة الفترة الانتقالية التي يفترض أن تهيّئ الدولة السودانية لتأسيس جديد، إلا أنّ تشكيل تلك البعثة جاء وسط تجاذب بين القوى السياسية المدنية من جهة، والعسكريين الذين ساعدوا في دعم الانتفاضة الشعبية، وفي إسقاط عمر البشير، من جهة أخرى، تجاذباً بدا خفياً لكنهُ سـرعان ما برز إلى العلن، وانتهى بالسودان إلى انقلاب العسكريين في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 على القوى الشعبية التي أسقطتْ حكم البشير.

هكذا صار ملف البعثة الأممية التي اقترحها الشقّ المدني لإدارة الفترة الانتقالية، موضع شـكٍّ من العسكرييـن المشاركين في إدارة تلك الفتـرة. أفسح انقلاب الجنرالات (25 أكتوبر 2021) على الشقّ المدني المجال للعسكريين لإعطاء ظهورهم للبعثة الأممية، بحكم أن اقتراحها، منذ البداية، جاء من الشقّ المدني، وهو طرفٌ لا يثقون به.

(2)

فيما ظلّ رئيس البعثة الأممية، فولكر بيرتس، يؤكّد، على الدّوام، أنّه لا يحمل مبادراتٍ، ولا يرغب في إلقاء دروس على أيّ طرف سوداني، بل إنّ السودانيين هم من يملكون ملفّ قضاياهم، وأنه ليس أكثر من مُيسّر لتشجيع الحوار، وحثّ جميع الأطراف على إيجاد مخرجٍ للاستعصاء الماثل، الذي سبّبه الجنرالات بانقلابهم العسكري، فغابت المرجعيّات الدستورية المؤقتة والترتيبات السياسية التي تحكم الفترة الانتقالية. وقف الجنرالات عاجزين عن تشكيل حكومة تدير البلاد، وعن إحداث اختراقٍ لتحقيق السلام والاستقرار، فيما تعذّر على المجتمع الدولي التعاون مع انقلابٍ عسكريٍّ لا يوثق به. في استمرار الأزمة والاستعصاء الماثل، صارت البعثة الأممية هدفاً لسهام الجنرالات، ومزاعمهم أنها تدخّلت في ما لا يعنيها، وأنّ رئيسها الدبلوماسي الخبير، فولكر بيرتس، تجاوز صلاحياته. افتعل الجنرالات بتجاهلٍ وتغييب شبه تام لدور جهاز الدبلوماسية السودانية، معركة مع الرّجل، وكأنّهم لم يسمعوا بقرار مجلس الأمن 2524 الصادر عام 2020، والذي فصّل مهام الرجل تفصيلاً محدّداً مُلزماً.

(3)

وعِوض أن يحاور الجنرالات رئيس البعثة الأممية عن مهامها ودورها في تيسير الفترة الانتقالية، جنحوا، بعد جولاتٍ من المشاورات المتعثرة، إلى تهديده، تلميحاً بالطرد، متجاهلين القرار الأممي، أو هم لا يرون أنّ مثل ذلك التهديد يتركهم في مواجهة مجلس الأمن، بل المجتمع الدولي برمّته، ويعيد السودان إلى العزلة القاتلة التي جرَّب ويلاتها السودانيون إبّان حقبة الطاغية البشير.

في خضم هذه التجاذبات، لم تغفل أطرافٌ في المجتمع الدولي التي ظلتْ تعبّر عن تعاطفها الفعلي مع السودان، واستعدادها لتقديم أقصى الدّعم، بما في ذلك إعفاء ديون بمليارات الدولارات، وتقديم مساعدات بمليارات أخرى تعيـد السّودان دولة فاعلة لها دورها، ليس في استقرار أحوالها الداخلية فحسب، بل دورها الإقليمي في استقرار جوارها الأفريقي، القريب والأبعد.

(4)

أمّا وقد أكملت البعثة الأممية في السّودان فترة صلاحيتها الأولى، وحان أوان التجديد لمهمتها، فقد قدّم رئيسها تقريره المفصل إلى مجلس الأمن في يوم 26 مايو/ أيار 2022. تمسّك الدبلوماسي رئيس البعثة الأممية لمساعدة مسيرة الفترة الانتقالية في السودان، بدبلوماسيته الحصيفة، في تقديم تقريره عن جهوده التي جمع إليها طرفين مهمين، الاتحاد الأفريقي ومنظمة "الإيغاد" المعنية بالتنمية في الإقليم، وذلك لحثّ الأطراف السودانية، مدنيين وعسكريين، للجلوس والتحاور بهدف تجاوز الاستعصاء الماثل، غير أنّ الرجل سعى، هذه المرّة، لتقديم تقرير أراده متوازناً، فطالب جنرالات الانقلاب بتقديم تنازلات لتهيئة مناخ الحوار الجادّ، مثلما طالب المدنيين بالتوافق والتخلي عن مقاطعة جلسات الحوار. على أن المتوقع من المبعوث الأممي ملامسة النقاط الحسّاسة، والظن أنها من صميم مهامه، ورأيتها تمثلت في ملاحظات ثلاث.

(5)

أوّل ملاحظة على تقرير رئيس البعثة الأممية، تجنبه التعرّض لتفاصيل الانقلاب الذي أحدث الاستعصاء والأزمة التي جنح فيها الجنرالات، إثر انقلابهم العسكري، إلى إلغاء (ولا أقول تعديل) الوثيقة الدستورية المؤقتة التي التزمها المدنيون والعسكريون في 2019. ها هم الجنرالات، وقد شرعوا في السيطرة على أحوال البلاد، من دون مرجعيّاتٍ تبرّر استمرارهم في تلك السيطرة، ما تصاعدت معه الاحتجاجات الشعبية، فما وجدوا خياراً سوى القمع بالعنف المفرط وقتل المتظاهرين. بمثل هذه الممارسات، شكّل الجنرالات امتداداً لحكم البشير قـولا وفعـلاً. وها هم الآن شـاخصون في عجزهم، غير قادرين على تشكيل حكومةٍ تدير شؤون البلاد، كما هم غير آبهين لتبعات تجاهل المجتمع الدولي الذي عمد إلى تجميد التعاون مع ما يراه نظاماً عسكرياً أعطى ظهره لمسيرة الانتقال لتحقيق ديمقراطية واستقرار في السودان.

(6)

ثاني الملاحظات عدم التفات رئيس البعثة الأممية إلى رسائل الجنرالات التي تضمر تهديداً بتشكيل حكومةٍ تعمل على الفور لإقامة انتخابات تأتي بحكومة شرعية تدير البلاد، فيتفرّغون هم إلى مهامهم العسكرية الأساسية، ويبتعدون عن السياسة. وفيما يصدر الجنرالات مثل تلك التهديدات، يا للمفارقة، هم ساعون حثيثاً لإعادة عناصر النظام البائد إلى مناصبهم في كلّ مفاصل الدولة، بما يشبه إجهاض ثورة السودانيين في ديسمبر/ كانون الأول 2018 التي أسقطت البشير وأزلامه. إنّ حلّ الأزمة، بالطبع، لن يكون عبر ممارساتٍ قد تعيد عناصر نظام البشير للحكم عبر انتخابات تعد على عجل.

(7)

ثالث الملاحظات تتصل باتفاقية السلام التي أعلن الجنرالات وقادة الحركات المسلحة، ومعظمهم من كانوا فاعلين في معارضة نظام الطاغية، أنها اتفاقية ستحقق السلام، غير أنها اتفاقية ملأى بالثقوب وبالنواقص. لم يسلط تقرير رئيس البعثة الأممية ضوءا كثيفا مطلوبا لمعالجة تلك الثقوب والنواقص، وأن قادة تلك الحركات المسلحة انشغلوا باحتلال مناصب في الإدارة المركزية للدولة. ليس ذلك فحسب، بل تراهم وقد جنحوا إلى ممارسة السياسة في المركز، مدجّجين بأسلحتهم وسياراتهم العسكرية ولباسهم ورتبهم العسكرية العشوائية، وكأنّ ملف أزمة دارفور الذي هبّوا من أجله، تراجع عندهم، وصار جلّ همهم امتلاك قدم في العاصمة، ووراثة ما بقي من عقارات النظام البائد. بعض قادتهم أنشأوا مفوضيةً للأراضي، خصوصا بحركته العسكرية، فتأمل. أحدث كل ذلك انفلاتاً أمنياً متصاعداً، ما أضعف هيبة الدولة وبان عجزها للعيان. لكأنّ من قادة اتفاقية السلام تلك من قصد استلهام تجربة حزب الله في لبنان، ليطبقها في السودان.

هذه الأمور الخطيرة ما كان ينبغي تجاهلها في تقرير رئيس البعثة الأممية، إن كانت أولى مهامها تيسير الانتقال إلى تأسيس دستوري للسودان، يقوم على أنقاض خراب نظام البشير البائد. على الحركات المسلحة التي عارضت حكم البشير، أن تلقي سلاحها، وأن تتحوّل أحزاباً سياسية، أو يجري إدماجها في القوات المسلحة للدولة، بالتراضي ووفق اتفاق السلام. كيف يتجاهل التقرير الأممي مثل تداعيات الانقلاب المشؤوم الذي قد يترك السودان قابلاً للتشظي إلى دويلاتٍ لن يكون لها حول ولا قوة.

(8)

ها هو رئيس البعثة الأممية، ومن رافقه في مساعيه من الاتحاد الأفريقي، ومن منظمة "إيغاد"، قدّموا تقريراً رآه معظم المراقبين متوازناً، غير أنهُ حمل في مجمله مجاملات دبلوماسية، وحفلَ بانتقاداتٍ مُضمرةٍ ومغلّفةٍ بمناشدات لأطراف الأزمة السودانية، بهدف استئناف الحوار. استمع مجلس الأمـن مليّاً وبرضاً كامل، فتوافق جميع الأعضاء على تجديد الثقة في البعثة ورئيسها، وباركوا مساعيه لتنفيذ ما كُلِّف به. جرى التجديد للبعثة الأممية عامين بنهارٍ، وتلك رسالة، كما لا يخفى، لمن فكر في إنهاء مهمتها بليل.

لم يظهر إلى العلن اختلاف في وجهات النظر في مجلس الأمن، ونعلم أن بين الأعضاء من يميل إلى التعاطف مع الجنرالات، كما فيهم من حمل رأياً سالباً في الذي يفعله الجنرالات من استخفافٍ وحمل تعظيماً لثورة السودانيين. ها هي موسكو. وعلى الرغم من انشغالها بالحرب الظالمة في أوكرانيا، لكنها تنتقد من أسمتهم الراديكاليين في السودان، كي لا يعارضوا، في زعمها، جهود تسوية أزمة السّودان الماثلة. في الجانب الآخر، تمضي الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات فردية حاسمة، لمن يتردّدون في دعم الطبيعة المدنية لثورة السودانيين.

.. أيّها السّودانيون، وأنتم تسعون للتوافق، فإنَّ المجتمع الدولي، وأنتم جزءٌ فاعل فيه، عليكم تقدير مساعيه لتوطيد الاستقرار والسلام في ربوع بلادكم، ولكن يبقى الإمساك بأقدار بلادكم بأيديكم، لا بأيدي غيركم.

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبّر عن رأي كاتبه فقط


Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 3