كتب المهدي مبروك:تونس والضغوط الخارجية .. العنتريّات السعيدة

2021.10.18 - 02:30
Facebook Share
طباعة

لا أحد من التونسيين يودّ أن تكون بلاده عرضة للتدخلات الخارجية. ولكن علينا أن نتعامل بكثير من الهدوء تجاه هذه المسألة التي تم الانحراف في معالجتها، إذ يبدو أن أنصار الرئيس قيس سعيّد قد حوّلوها "معركة وطنية"، تدقّ لها الطبول، ويخوّن فيها مناضلون شرفاء كثيرون قارعوا الاستبداد.
في أقل من ثلاثة أشهر من الانقلاب على الدستور، استقبلت البلاد عشرات الوفود التي باركت ما أقدم عليه الرئيس، وتعهدت بدعمه والوقوف معه. ولم تتمكّن دول في الخليج هرول وزراء خارجيتها لزيارة تونس، وعرق الانقلاب لم يجف بعد، وهم يمتطون الطائرة قادمين إلى قرطاج، من كتم غبطتهم، وهم ينزلون في بلدٍ شكّل استثناءً مزعجاً لهم، وظلّ عصياً على تدخلاتهم الحريصة على إفشال تجربة الانتقال الديمقراطي التي، على الرغم من عثراتها، لم ترمِ الإسلاميين في الزنازين، كما اشتهت تلك الدول، بل أعطتهم فرصة الحكم، وعاقبتهم حينما استبدلتهم بغيرهم، وظل الأمر تحدّده إرادة الشعب، كما عبّر عنها في صناديق الاقتراع في أثناء الانتخابات التي شهدتها البلاد، والتي صعّدت الرئيس ذاته إلى دفّة الحكم. لا شك في أن هناك اختلالات عديدة كان على التونسيين تلافيها، بمزيد من تحصين الديمقراطية وإصلاح عللها. هرول كل أولئك من أجل تقديم الوصفات الكفيلة بقبر التجربة وإنهاء ما رأوه مزعجاً لهم.
تعمد الأنظمة الشمولية إلى إعلاء الخطاب المناهض للتدخل الأجنبي، وتصوير هذا الخطاب تعبيراً وحيداً عن الوطنية، وهي بهذا تعمل على مزيد التحشيد والتعبئة، من أجل استدامة الخطر الداهم وتمديد حالة الاستثناء وجعل المعركة معركة وجود. يتكفل هذا الخلط المتعمد في مثل هذه المناخات الهوجاء بعزل المعارضين واعتبارهم طابوراً خامساً، يحل نعتهم بالخونة وتسليط أقصى العقوبات عليهم. لقد سُحِلَ الرئيس الأسبق، منصف المرزوقي، إلكترونياً، ونُهش عرضه، بل قرأنا دعوات إلى حرق بيته وطرده من مدينة سوسة التي يقيم فيها، كما يجري سحب جواز سفره الدبلوماسي، وسط تهليل من أنصار قيس سعيّد وأحزاب محسوبة عليه، لها ولع مرضي بالانقلابات أينما حلت.

لم يكترث سعيّد بنصائح أصدقاء تونس الذين دعموا تجربة الانتقال الديمقراطي، وساعدوا البلاد في محنتها

منذ انقلاب 25 جويلية (يوليو/ تموز)، أصبحت "النازلة التونسية" موضوع أغلب المؤتمرات والمنظمات والتجمعات الإقليمية، فقد بادرت وزارة الخارجية الأميركية إلى التواصل مع السطات التونسية، ثم زارت البلاد مرّتين وفود من الكونغرس الأميركي، حيث حثّت الرئاسة على العودة إلى مسار الديمقراطية. ثم زار مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزف بوريل، تونس، وعبر تقريباً عن الموقف نفسه، وإن بلغة دبلوماسية أوروبية تختلف في معجمها مع لغة نظرائه الأميركيين، غير أن لا شيء تغير، ولم يكترث الرئيس سعيّد بنصائح أصدقاء تونس الذين دعموا تجربة الانتقال الديمقراطي، وساعدوا البلاد في محنتها، حين واجهت الإرهاب، سواء من خلال التعاون العسكري أو الدعم الاقتصادي.
الهروب إلى الأمام وفرض الأمر الواقع جعلا منظمة الفرنكوفونية تؤجل مؤتمرها إلى السنة المقبلة، وكان مقرراً أن ينعقد أواخر الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني) في مدينة جربة. ثم ما لبث أن جُمِّدَت عضوية تونس في البرلمان الفرنكوفوني، احتجاجاً على حلّ الرئيس قيس سعيّد البرلمان التونسي. وعوض أن تسعى الدبلوماسية التونسية إلى الحوار مع هذه المنظمات والتجمعات الإقليمية من أجل حل المشكل واستباق إجراءات قد تتقرّر مستقبلاً، كالت اتهاماتها للرئيس المرزوقي، وكل من "تساوره نفسُه للمسّ بأمن تونس الداخلي والخارجي".


الوطنية احترام دستور الوطن، والعمل على ترسيخ الديمقراطية فيه وبنائه بالشراكة مع أبناء الوطن ممن ساندوك أو خالفوك

بعد ساعات من صدور بيان الكونغرس الأميركي، يبدو أن الاتحاد الأوروبي قد استجاب لدعوته، وقد حثّ "الأصدقاء الأوروبيين على التنسيق معه"، من أجل الضغط على السلطات التونسية، لإجبارها على احترام الدستور والديمقراطية البرلمانية وتعهداتها في مجال حقوق الإنسان والحريات الفردية والعامة.
يعمد لفيفٌ من أنصار الرئيس سعيّد، بما فيها منظماتٌ عريقة إلى العزف على مشاعر مناهضة التدخلات الخارجية، والحال أن قضايا الانقلابات لم تعد، منذ عقود، مسألة داخلية، لأنها في صلب استقرار هذه الدولة وأمنها الوطني والسلم الدولي... ولا أحد يود أن تكون بلاده موضوعاً تتناوله الاجتماعات هنا وهناك، ولكن ما السبيل إلى وضع حد لها؟ ليس للتونسيين من وصفة سحرية لردع تلك التدخلات سوى تعميق الحوار الداخلي بينهم، والجلوس إلى طاولة الحوار من دون إقصاء أو مكابرة، من أجل تنازل بعضهم لبعض.
من يرفض الحوار يعطِ مبرّراً إضافياً لتلك الضغوط، وهو ضمنياً يدعو تلك القوى إلى مزيد التدخل. أن تسعى إلى كفّ التدخل الأجنبي يقتضي هذا منك أن تلتفت إلى أبناء وطنك، مهما اختلفت معهم، من أجل الإقرار بأن لا حل سوى معهم وبهم. على قاعدة احترام الدستور والمضي في إصلاح علل الديمقراطية، عبر تعزيز قيم الحوار والمشاركة، فمن شأن كل أشكال التفرد بالسلطة وشيطنة الخصوم وتخوينهم أن تقدّم حججاً وبراهين لمزيد من الضغوط الأجنبية التي لا يرضاها أحد من التونسيين لبلدهم. الوطنية هي أيضاً احترام دستور الوطن، والعمل على ترسيخ الديمقراطية فيه وبنائه بالشراكة مع أبناء الوطن ممن ساندوك أو خالفوك.

المصدر:https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B6%D8%BA%D9%88%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D8%AA%D8%B1%D9%8A%D9%91%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D8%AF%D8%A9

المقال لا يعبّر عن رأي الوكالة وإنما يعبر عن رأي كاتبه فقط 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 6 + 8